كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والنفير من ينفر مع الرجل من قومه. احتجت الأشاعرة بقوله سبحانه: {قضينا} بعثنا {وكان وعدًا مفعولًا} على صحة القضاء والقدر وأن الفساد والنهب والقتل والأسر كلها بفعله. وأجابت المعتزلة بأن المراد أنه خلى بينهم وبين ما فعلوا ولم يمنعهم عن تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظها. وضعف بأن تفسير البعث بالتخلية وعدم المنع خلاف الظاهر، على أن الدليل الكلي العقلي قد دل على وجوب انتهاء الكل إليه.
ولما حكى عنهم أنهم حين عصوا سلط عليهم أعداءهم مهد قاعدة كلية في الإحسان والإساءة قائلًا {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} لم يقل فعليها أو فإليها للتقابل، مع أن حروف الإضافة بعضها يقوم مقام البعض. قال أهل الإشارة: إنه أعاد الإحسان ولم يذكر الإساءة إلا مرة ففيه دليل على أن جانب الرحمة أغلب {فإذا جاء وعد} عقاب المرة {الآخرة} بعثناهم حذف جواب {إذًا} لدلالة ذكره أولًا عليه. ومعنى {ليسوؤا وجوهكم} ليجعلها الله، أو الوعد، أو البعث، أو ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه {وليتبروا ما علوا} ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه، ويجوز أن يكون {ما} بمعنى المدة أي ما دام سلطانهم جاريًا على بني إسرائيل. وقوله: {تتبيرًا} ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقًا للخبر. وروى أن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين، فسلط الله عليهم بختنصر أو سنجاريب وجنوده أو جالوت. عن ابن عباس: قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وسبوا منهم سبعين ألفًا وبقوا في الذل إلى أن قيض الله ملكًا آخر من أهل بابل وتزوج بامرأة من بني إسرائيل وطلبت من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه، ثم أقدموا على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام وقصدوا قتل عيسى ابن مريم عليه السلام، وهذا ثاني الإفسادين فانتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك. وقال صاحب الكشاف: المرة الأولى قتل زكريا وحبس أرميا، والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام، والمقصود الأصلي الذي دل عليه القرآن هو أنهم كلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم.
وفيه تحذير للعقلاء من مخالفة أوامر الله ونواهيه، ثم قال: {عسى ربكم} يا بني إسرائيل {أن يرحمكم} بعد إنتقامه منكم في المرة الثانية {وإن عدتم} للثالثة {عدنا} لها. قال أهل السير: ثم إنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي. وهو تكذيب محمد وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل. فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب، فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والإجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا حشمة لهم ولا عزة فيهم إلى يوم القيامة، وأما بعد ذلك فهو قوله: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} أي محبسًا حاصرًا ومحصورًا لا يتخلصون منه أبدًا.
وعن الحسن: بساطًا كما يبسط الحصير المنسوج.
ثم لما شرح فعله في حق عباده المخلصين كمحمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام وفي حق عبيدة العاصين كأكثر بني إسرائيل، وكان في ذلك تنبيه على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته تقتضي كل شر وغرامة، عظم شأن القرآن المبين للأحكام الهادي للأنام فقال: {إن هذا القرآن يهدي للتي} أي للحالة أو الشريعة أو الطريقة التي {هي أقوام} وفي حذف الموصوف فخلفه بعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار وذهاب الوهم كل مذهب. قيل: هذا الشيء أقوم من ذلك. إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة، ثم يكون للأول على الآخر. وكيف يتصور في غير هذا الدين شيء من الاستقامة حتى يستقيم هذا التفضيل؟ وأجيب بأن أفعل ههنا بمعنى الفاعل كقولنا: الله أكبر هو الكبير. وكقولهم: الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي عادلا بني مروان. ويمكن أن يقال: لا شيء من الأديان إلا وفيه نوع من الاستقامة كالاعتراف بالله الواجب بالذات، والالتزام لأصول الأخلاق ومكارم العادات وقوانين السياسات إلا أن بعض الخلل أبطل الكل فالكل ينهدم بانهدام الجزء. ثم إن كون القرآن هاديًا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح له نتيجة وأثر وذلك هو البشارة بالأجر الكبير لأهل الإيمان والعمل الصالح وبالعذاب الأليم لغيرهم، وأنت خبير بأن لفظ البشارة بمعنى الإنذار يستعمل للتهكم إذ البشارة مطلق الخبر المغير للبشرة فكأنه قيل: ويخبر الذي لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذابًا. ويجوز أن يبشر المؤمنين ببشارتين: إحداهما بثوابهم والأخرى بعذاب أعدائهم. قال في الكشاف: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ وأجاب على أصول الاعتزال بأن الناس كانوا حينئذ إما من أهل التقوى وإما من أهل الشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. قلت: هذا الجواب منه عجيب، فإن هذا الصنف لو سلم أنه لم يكن موجودًا في ذلك العصر إلا أن حكمه يجب أن يذكر في القرآن الذي فيه أصول الأحكام، على أن ذكر الفساق من الأمة في القرآن المكي والمدني موجودة قال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد} [لقمان: 32] {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 52] {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} [آل عمران: 135]. وإذا كان ذكرهم في القرآن واردًا وأنه تعلى يعدد ههنا أوصاف القرآن على جهة المدح فأي مقام أدعى إلى ذكر هذا الوصف من ههنا. والجواب الحق أن الفسقة جعلوا بالعين أهل الإيمان والله أعلم. قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة. والجواب المنع من الخصوص ولو سلم فإيمانهم بالآخرة كلا إيمان، فبعضهم أنكروا المعاد الجسماني وبعضهم قالوا: لن تمسنا النار إلاَّ أيامًا. واعلم أنه سبحانه قال ههنا: {أجرًا كبيرًا} وفي أول الكهف {أجرًا حسنًا} [الآية: 2]، رعاية للفاصلة وإلا فالأجر الكبير والأجر الحسن كلاهما الجنة.
ولما بين أن القرآن كافٍ في الهداية ذكر أن الإنسان قد يعدل عن التمسك بأحكامه فقال: {ويدع الإنسان} أي جنس الكافر. وقد ذكر جمع من المفسرين أنه النضر بن الحرث دعا {اللَّهم إن كان هذا هو الحق من عندك} [الأنفال: 32]، الآية فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته صبرًا. وكان بعضهم يقول: ائتنا بعذاب الله، وآخرون متى هذا الوعد جهلًا منهم واعتقادًا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كاذب. وقيل: المراد أنه يدعو الله عند غضبه وضجره فيعلن نفسه وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرًا فأقبل يئن بالليل فقالت له: مالك تئن؟ فشكا ألم القد فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب. فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى الله عليه وسلم: اللَّهم اقطع يديها فرفعت سودة يديه تتوقع الإجابة وأن يقطع الله يديها قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلترد سودة يديها. {وكان الإنسان عجولًا} يستعجل بالعذاب مع أنه آتيه أو يتسرع إلى طلبه كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله معتقدًا أن خيره فيه وإن كان ذلك عند التأمل مضرًا له. وقيل: أراد بهذا الإنسان آدم، وذلك أنه لما انتهى الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى فذهب لينهض فلم يقدر. وليس هذا القول بالحقيقة مغايرًا للأول لأن أصل الآدمي إذا كان كذلك كان كل فرد منه متصفًا به لا محالة. قال أهل النظم: لما ذكر نعمة الدين وهو القرآن أردفها بنعمة الدنيا فقال: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} وفيه أن القرآن لا يتم المقصود منه إلا بنوعية المحكم والمتشابه، فكذا الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بجزئيه الليل والنهار.
فالمحكم كالنهار في وضوحه، والمتشابه بمنزلة الليل في خفائه. وبوجه آخر لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب الزمان. وبوجه آخر لما وصف الإنسان بكونه عجولًا أي منتقلًا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك فينتقل الهواء من الإنارة إلى الظلام وبالعكس، وينتقل القمر من النقصان إلى الامتلاء وبالضد. {فمحونا آية الليل} هي من إضافة الشيء إلى نفسه للبيان كقولك نفس الشيء أو ذاته أي فمحونا الآية التي هي الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسًا مظلمًا لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو {وجعلنا} الآية. التي هي {النهار مبصرة} ذات إيصار وذلك باعتبار من فيها أي تبصر فيها الأشياء وتستبان، أو أريد بالإبصار الإضاءة لأنها سببه. وقيل: المضاف محذوف والتقدير وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية غير بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء {لتبتغوا فضلًا من ربكم} لتتواصلوا ببياض النهار أو بشعاع الشمس المستلزم للنهار إلى التصرف في وجوه معايشكم. {ولتعلموا} باختلاف الجديدين أو بزيادة ضوء القمر ونقصانه {عدد السنن} الشمسية أو القمرية المركبة من الشهور {و} لتعلموا جنس {الحساب} المبني على الساعات والأيام والشهور والسنين والأدوار. وقيل: أراد بمحو القمر الكلف الذي هو وجهه. وسببه في الشرع ما روي أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله تعالى جبريل فأمر جناحه على وجه القمر فأذهب عنه أثر الضياء. وسببه عند الفلاسفة أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء كارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءًا من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان. ونحن قد ذكرنا له وجهًا آخر في الهيئة، قال أهل التجارب: إن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه لا سيما في أحوال البحار والبحارين على ما يذكره الأطباء، إلا أن الكلف ليس له مدخل في ابتغاء فضل الله وفي معرفة الحسابات تفصيلًا. نعم لو قيل: إن الكلف نقص من نور القمر حتى لم يقو على إزالة ظلام الليل بالكلية فبقي في وقت السكون والراحة بحالة ووقت التردد في طلب المعاش بحالة، وصار تعاقب الليل والنهار سببًا لمعرفة الأيام وما يتركب منها كان متجهًا.
ثم قال: {وكل شيء} مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم {فصلناه تفصيلًا} بيناه بيانًا غير ملتبس حتى انزاحت العلل وزالت الأعذار فلا يهلك من يهلك إلا عن بينة فلذلك قال: {وكل إنسان ألزمناه طائره} أي عمله {في عنقه} وبوجه آخر لما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل لابتغاء المعاش وللدعة والراحة ولمعرفة المواقيت، وكان الغرض الأصلي من الكل هو الاشتغال بخدمة المعبود وتهذيب الأفعال وإصلاح الأقوال، ذكر أن الإنسان مؤاخذ في عرصة القيامة بأقواله وأفعاله وسائر أحواله ليظهر أنه هل أتى بما هو المقصود من خلقه أم لا.
قال أكثر أهل اللغة: إن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال اعتبروا أحوال الطائر أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه، وإذا طار فهل يطير متيامنًا أو متياسرًا أو صاعدًا في الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على ما يسوقهم عملهم إليه من خير أو شر، فإطلاق الطائر على العمل تسمية للنبي باسم لازمه. وقال أبو عبيدة: الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت. فالطائر ما وقع للشخص في الأزل مما هو نصيبه من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كأنه طائر يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيرانًا لا نهاية له ولا غاية إلا إن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص وفي هذا دليل على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل، والكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية. وإنه سبحانه أكد هذا المعنى بإضافة الإلزام على نفسه ثم بقوله: {في عنقه}. يقال: جعلت هذا الأمر في عنقك أي قلدتكه والزمتك الاحتفاظ به. فإن كان خيرًا يزينه كان كالطوق، وإن كان شرًا يشينه كان كالغل. ومن أمثال العرب: تقلدها طوق الحمامة {ونخرج له} من قرأ بالنون فظاهر. وقوله: {يلقاه منشورًا} صفتان للكتاب أو {يلقاه} صفة {منشورًا} حال من مفعول يلقاه. ومن قرأ بالياء مجهولًا أو لازمًا فالضمير للطائر {وكتابًا} حال منه، يقال: لقيت الشيء ولقانيه غيري. عن الحسن: يا ابن آدم بسطت الصحيفة وطويت في قبرك معك، ثم إذا بعثت قلدتها في عنقك {اقرأ كتابك} على إضمار القول. قال قتادة: يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئًا و{وبنفسك} فاعل كفى و{حسيبًا} تمييز بمعنى حاسب وإنه كثير من فعل بالضم كقريب وبعيد، ولكنه من فعل بالفتح غريب، منه ما قال سيبويه: ضريب القداح بمعنى ضاربها، وصريم بمعنى صارم. وعلى متعلق بحسيب من قولك حسب عليه كذا، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ثم وضع. موضع الشهيد فعدي بعلى لأن الشاهد يكفي المدعي ما أهمه.
وذكر حسيبًا بمعنى رجلًا حسيبًا لأنه بمنزلة الشهيد، والغالب أن الشهادة يتولاها الرجال كالقضاء والإمارة والنفس مؤوّل بالشخص، أو حمل فعيل بمعنى فاعل على فعيل بمعنى مفعول كقتيل، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب. قال الحسن: عدل الله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي: يقول الكافر يومئذٍ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} وروي أن يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفته وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى له: فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره ويصير من الذين قال الله في حقهم {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة} [عبس: 38، 39] قال الحكيم: التكرار يوجب تقرير الآثار، فكل عمل يصدر من الإنسان خيرًا أو شرًا فإنه يحصل منه في جوهر روحه أثر مخصوص إلا أن ذلك الأثر يخفى ما دام الروح متعلقًا بالبدن مشتغلًا بواردات الحواس والقوى، فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كأنها كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلا العالم العلوي، فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره، وهذا معنى الكتابة والقرآءة بحسب العقل، وإنه لا ينافي ما ورد في النقل.
ثم بين أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده مختص بفاعله لا يتعدى منه إلى غيره فقال: {من اهتدى} إلى قوله: {وزر أخرى}. قال الجبائي: فيها دلالة على أن الأطفال لا يعذبون بكفر آبائهم، وأن الوزر والإثم ليس من فعل الله وإلا لم يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره بل كان يجب أن لا وزر أصلًا لأن الصبي لا يوصف بالوزر لأنه غير مختار. وجواب الأشاعرة أن الوزر مختص بأفعال المكلفين من الثقلين، وقدَحَت عائشة بذلك في صحة ما رواه ابن عمر: إنَّ الميت ليعذب ببكاء أهله واستدل به جماعة من الفقهاء في الامتناع من ضرب الدية على العاقلة. ويمكن أن يجاب بأنه ما من عام إلا وقد خصص. أما قوله: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} فقد استدل به الأشاعرة في أن وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع لأن الوجوب لا تتقرر ما هيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية. أجاب الخصم بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي لأن النبي إذا جاء وادعى المعجزة فهل يجب على المستمع قبول قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب، والثاني باطل بالاتفاق، وعلى الأوّل إن وجب بالعقل فهو المدعي، وإن وجب بالشرع فذلك الشارع إن كان ذلك النبي لزم إثبات الشيء، وإن كان غيره دار أو تسلسل.